، التي كتبها الإمام سحنون في الفقه المالكي ، عن ظهر قلب كما تحفظ القرآن الكريم , تاااابع
وقد خلد الإمام عبدالحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ دور نساء بجاية في نهضتها الفكرية في عبارته الشهيرة التي وصفهن بها ـ إلى جانب نساء بغداد وقرطبة ـ بأنهن بلغن مكاناً عالياً في العلم , وهن محجبات.
ومما يؤكد أهمية بجاية والمكانة العلمية التي بلغتها في عهودها الزاهرة ، اتجاه غير المسلمين إليها وطلبهم العلم في معاهدها , فقد تعلم أهل بيزا الإيطاليون صنع الشمع من مصانعها , ونقلوه إلى بلادهم , ومنها إلى أوروبا ، ولا يزال يسمى الشمع عندهم (بوجي) مأخوذاً عن اسم بجاية كما أن العالم الرياضي الإيطالي الشهير (فليوناردو بيزة) تتلمذ على أيدي علمائها.
أعلام بجاية :
لقد تخرج من بجاية أعلام كثيرون في الفقه ، والأدب والشعر والطب والرياضيات وغيرها ... ورغم أن أبا العباس أحمد بن عبدالله الغبريني ، وضع كتابه "عنوان الدارية " للترجمة لمشايخه من علماء القرن السادس الهجري الذي يعد من أكثر قرون بجاية ازدهاراً في الحياة العلمية والتعليمية ، إلا أنه لم يأت عليهم جميعاً , واكتفى بأن قال بعد أن أورد مجموعة منهم :" وقد بقي خلق كثير من أهل المائة السادسة , ممن لهم جلال وكمال , ولكن شرط الكتاب منع من ذكرهم.
وفي إطار الترجمة لأبي علي المسيلي : الذي درس ببجاية , وولي القضاء بها , وجمع بين العلم والعمل , وعرف بأبي حامد الغزالي الصغير ، أشار الغبريني إلى حجم العلماء المجتهدين الذين قاموا على حل المسائل الشرعية الدقيقة ...فأورد قولا لأبي علي المسيلي ، جاء فيه : "أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتياً , ما منهم من يعرف الحسن بن علي المسيلي".
لقد استطاعت بجاية أن تكون لأكثر من أربعة قرون قبلة العلماء , ومهبطاً لأفئدة طالبي العلم ، وساحة لتبادل الأفكار والآراء ، وميداناً للإبداع العلمي ؛ حيث راجت حركة نشطة للتأليف في الفقه والتاريخ والرياضة والفنون والنحو وغير ذلك ... ويذكر المؤرخون أن الفرنسيين عندما غزوا بجاية استولوا على حمولة اثنتي عشرة سفينة من الكتب القيمة جمعت من مدارس بجاية ومساجدها ويقال إن هذه الكتب غرقت جميعها في البحر ...
وقد خلد الإمام عبدالحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ دور نساء بجاية في نهضتها الفكرية في عبارته الشهيرة التي وصفهن بها ـ إلى جانب نساء بغداد وقرطبة ـ بأنهن بلغن مكاناً عالياً في العلم , وهن محجبات.
ومما يؤكد أهمية بجاية والمكانة العلمية التي بلغتها في عهودها الزاهرة ، اتجاه غير المسلمين إليها وطلبهم العلم في معاهدها , فقد تعلم أهل بيزا الإيطاليون صنع الشمع من مصانعها , ونقلوه إلى بلادهم , ومنها إلى أوروبا ، ولا يزال يسمى الشمع عندهم (بوجي) مأخوذاً عن اسم بجاية كما أن العالم الرياضي الإيطالي الشهير (فليوناردو بيزة) تتلمذ على أيدي علمائها.
أعلام بجاية :
لقد تخرج من بجاية أعلام كثيرون في الفقه ، والأدب والشعر والطب والرياضيات وغيرها ... ورغم أن أبا العباس أحمد بن عبدالله الغبريني ، وضع كتابه "عنوان الدارية " للترجمة لمشايخه من علماء القرن السادس الهجري الذي يعد من أكثر قرون بجاية ازدهاراً في الحياة العلمية والتعليمية ، إلا أنه لم يأت عليهم جميعاً , واكتفى بأن قال بعد أن أورد مجموعة منهم :" وقد بقي خلق كثير من أهل المائة السادسة , ممن لهم جلال وكمال , ولكن شرط الكتاب منع من ذكرهم.
وفي إطار الترجمة لأبي علي المسيلي : الذي درس ببجاية , وولي القضاء بها , وجمع بين العلم والعمل , وعرف بأبي حامد الغزالي الصغير ، أشار الغبريني إلى حجم العلماء المجتهدين الذين قاموا على حل المسائل الشرعية الدقيقة ...فأورد قولا لأبي علي المسيلي ، جاء فيه : "أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتياً , ما منهم من يعرف الحسن بن علي المسيلي".
لقد استطاعت بجاية أن تكون لأكثر من أربعة قرون قبلة العلماء , ومهبطاً لأفئدة طالبي العلم ، وساحة لتبادل الأفكار والآراء ، وميداناً للإبداع العلمي ؛ حيث راجت حركة نشطة للتأليف في الفقه والتاريخ والرياضة والفنون والنحو وغير ذلك ... ويذكر المؤرخون أن الفرنسيين عندما غزوا بجاية استولوا على حمولة اثنتي عشرة سفينة من الكتب القيمة جمعت من مدارس بجاية ومساجدها ويقال إن هذه الكتب غرقت جميعها في البحر ...
تابع
نزعات صوفية :
طغى على قطاع كبير من الشعب الجزائري إبان عهود مقاومة الاستعمار النزوع إلى التصوف , وبالرغم من وجود بعض التحفظات والملاحظات على مسالك كثير ممن يدعون التصوف الذي لا تحكمه الضوابط الشرعية , إلا أن نزعة الشعب الجزائري اتجهت إلى إبراز المعاني الإيجابية المتمثلة في ربط الإيمان بالعمل , ويمكن اعتبار ثورة الشيخ بلحداد , التي اعتمد فيها بشكل رئيس على أتباع الطريقة الرحمانية أقوى برهان على ذلك...
وإذا كان التصوف نزعة تميز بها الجزائريون في عهود الاضطهاد , وأوجدت منهم شعباً مجاهداً قل مثيله في العصور الحديثة , فإن الزوايا تعتبر المؤسسات الشعبية التي مورست من خلالها حياة التصوف وتحققت بين أركانها تلك الروح الجهادية.
ولم يقتصر نشاط الزوايا على التربية والتعليم والتحصين الثقافي والحفاظ على اللغة العربية والتقاليد الإسلامية والهوية الحضارية , وإنما تجاوز ذلك للقيام بأنشطة اجتماعية وسياسية , ولا سيما في عهود الاستعمار ... ويمكن اعتبار عام 915هـ (1510م) حيث سقطت بجاية بأيدي المستعمر الإسباني , بداية التاريخ الجهادي للزوايا ...ذلك أن العلماء وأهل الفكر والثقافة حين حاصرهم الأسبان , ودمروا عليهم مدينتهم ومعاهدهم أخذوا يبحثون عن مواقع جديدة يواصلون منها رسالتهم التي نذروا أنفسهم لها , فلم يجدوا ـ كما قال شارل فيرو في كتابه "تاريخ المدن " ـ أحسن من من حوض الصومام , وقمم جباله التي بقيت منيعة من الاستعمار الإسباني طيلة الفترة التي قضوها يحتلون بجاية.
ولم يعتمد العلماء النازحون من بجاية على دولة لتؤسس أو تمول لهم زوايا يواصلون منها رسائلهم التعليمية ، وإنما اعتمدوا بشكل أساسي على الجهود الذاتية والمساعدات العينية للمسلمين , فقد أحسنت المناطق التي التجؤوا إليها استقبالهم , ورفعت من شأنهم كعلماء, والتف الناس حولهم ,وساعدوهم بكل ما يملكون , بل حموهم سياسياً حين اشتدت المحن , وكان لذلك أثره في أن تنشأ في حوض الصومام أشهر الزوايا وأخطرها في تاريخ الجزائر , كمعهد "ثامقرا" وزاوية "شلاطة" ومعاهد بني "وغليس" وزاوية "سيدي التواتي " التي بقيت تعمل كجامعة مرموقة لأكثر من أربعة قرون , ويكمن القول بأن الإشعاع الثقافي الذي كان ينبعث من قصور حكام بجاية ومعاهدها لم يخبُ حين دمرها الإسبان ، وإنما انتقل إلى الوديان , وأعالي الجبال ليشمل حوض الصومام وقراه.
خريجو الزوايا :
لقد أنجبت زوايا حوض الصومام علماء أعلاماً فيما كرسوا أنفسهم له فهناك "عبدالرحمن الثعالبي" و "أحمد بن إدريس" الذي تتلمذ عليه (ابن خلدون) و (أحمد بن القاضي الزواوي ، الذي يقال : إنه ترأس الوفد الذي استدعى الإخوة العثمانيين الأربعة لتخليص بجاية من الإسبان ، والشيخ الفقيه عبدالرحمن الوغليسي ، الذي انتشر تلاميذه في القرن الثامن الميلادي في مختلف أنحاء الجزائر...
إن العلماء الذين تخرجوا في هذه الزوايا هم الذين حافظوا على الإسلام والعربية في الجزائر ، وجعلوا من الإيمان والعقيدة قوة فاعلة استطاعت أن تصد محاولات المستعمرين لاختراق الشخصية الإسلامية وتشويهها , وكما أسلفنا فقد انطلقت من هذه الزوايا كتائب الجهاد , وتفجرت ثورات كثيرة ومعارك عديدة لمقاومة المستعمر , ولذلك بقيت الزوايا ذات قيمة تاريخية جهادية لدى المواطنين لما أدته من دور وطني.
محاولات القضاء على الزوايا :
ومن هنا كانت محاولات الاستعمار المتكررة لمحاصرة الزوايا والقضاء على رسالتها من الداخل ... وكانت أشهر محاولات في هذا الصدد ما حدث عام 1889م حين سعى الفرنسيون لإدخال عناصر موالية لهم وتتعاون معهم ,فطلبوا من شيوخ الزوايا ، وهم المشهود لهم بالعلم ، أن يجلسوا لاختبارات كفاءة يكون اجتيازها شرطاً للسماح لهم بمواصلة رسالتهم ، ولقد تمكن المستعمر بهذه الطريقة من تشريد بعض الأساتذة وطلبة العلم , فهاجروا إلى تونس ومصر والشام وغيرها وأصبحت برامج الزوايا خاضعة لرقابة عيونهم وأعوانهم , ولم يعد مسموحاً بتدريس شيء سوى القرآن الكريم ...ولكن مع ذلك كله لم تمت الزوايا أو تتلاشى , ولم يتوقف تدريس العلوم التي كانت تدرس من قبل ، فقط أصبح يتم خفية , وساهم تدريس القرآن بشكل أساسي في انتشار اللغة العربية والاعتزاز بها , ورفض لغة المستعمر كبديل عنها.
ولقد كان في وعي الجماهير ، ودقة حاسة عامة الناس ، ومقدرتهم على التمييز بين العناصر الدخيلة والعميلة , وبين العناصر الوطنية الصادقة ، وإصرارهم على عدم التعامل إلا مع الصادقين ، السر في بقاء الزوايا واستمرار رسالتها التربوية والتعليمية والسياسية , وانتشارها في المدن والقرى والبوادي.
الزوايا بعد الاستقلال :
بإمكان الدارس لتاريخ الزوايا في الجزائر أن يرى فيه ثلاث مراحل أساسية:
مرحلة مقاومة المستعمر : وهي أكثر المراحل ازدهاراً ,ومرحلة الثورة المنظمة ,ومرحلة ما بعد الاستقلال ...وإن كنا قد أشرنا في الأسطر الماضية إلى المرحلة الأولى , فقد نرى تجاوز المرحلة الثانية , حيث توقفت الزوايا ـ نوعا ما ـ عن أداء رسالتها التعليمية بسبب انخراط العلماء والطلاب في صفوف الثورة المسلحة , والاستعداد لمعركة الاستقلال ؛ لنصل إلى المرحلة الثالثة التي تكتسب أهمية خاصة ؛ بسبب استمرارها , وما تنطوي عليه من صراع حضاري ...
وقد يكون من الضروري أن يتساءل المرء عن الزوايا بعد الاستقلال حيث أصبحت المدارس وطنية , وعما إذا استمرت تتابع طريقها في تعليم القرآن المواد الشرعية لطلاب لا يذهبون إلى المدارس الرسمية ، أو أن نشاطها اقتصر على القيام بدور التثقيف الشعبي , وتعليم طلبة المدارس الرسمية – في أوقات خاصة ـ القرآن وبعض العلوم الشرعية.
يقول أحد المسؤولين بولاية بجاية رداً على ذلك :
لم تعد الزوايا بعد الاستقلال على ما كانت عليه أيام الاستعمار الإسباني ومن بعده الفرنسي , وقد توقفت بعض الشيء في مرحلة الثورة وبداية الاستقلال , ولكن حين أوكل أمرها فيما بعد إلى وزارة الشؤون الدينية استعادت بعض ما كان لها , وأصبحت مورداً هاماً لتزويد المعاهد التي تعتمد عليها الوزارة في إعداد أئمة ووعاظ ومعلمين ؛ لتدريس القرآن بالمساجد والإشراف عليها ...ومعظم طلاب الزوايا اليوم ممن أكمل المرحلة الابتدائية في المدارس الرسمية , ولم يوفق لمواصلة فيها , حيث تعتبر الزوايا بمثابة مرحلة متوسطة , يلتحق الطالب بعد إكمالها بأي من المعاهد الأربعة التي تتبع وزارة الشئون الدينية .. ويكون الطالب بعدها مخيرا بين العمل أو مواصلة تعليمه بالجامعة الإسلامية بقسنطينة , أو بمعهد العلوم الإسلامية في جامعة الجزائر.
أما دور الزوايا في التثقيف الشعبي فقد أصبح محدوداً ومقتصراً على دروس في القرآن والفقه... ( هذا كلام الرجل في أواسط العقد التاسع من القرن الماضي )
ماذا بقي ؟
أما اليوم فلم يبق من بجاية الحمادية شيء باستثناء بعض الأبواب بأقواسها ذات الأبعاد المعمارية المتميزة ... أما القصور ومعاهد العلم فقد دمرها المستعمرون , وبنوا على انقاضها الحصون والثكنات العسكرية , ولكنهم وإن استطاعوا إزالة الكثير من آثار المسلمين وشواهد حضارتهم , إلا أنهم عجزوا عن تشويه الإسلام الذي يقيض الله له دائما الأجيال التي تحمله وتدافع عنه.
نزعات صوفية :
طغى على قطاع كبير من الشعب الجزائري إبان عهود مقاومة الاستعمار النزوع إلى التصوف , وبالرغم من وجود بعض التحفظات والملاحظات على مسالك كثير ممن يدعون التصوف الذي لا تحكمه الضوابط الشرعية , إلا أن نزعة الشعب الجزائري اتجهت إلى إبراز المعاني الإيجابية المتمثلة في ربط الإيمان بالعمل , ويمكن اعتبار ثورة الشيخ بلحداد , التي اعتمد فيها بشكل رئيس على أتباع الطريقة الرحمانية أقوى برهان على ذلك...
وإذا كان التصوف نزعة تميز بها الجزائريون في عهود الاضطهاد , وأوجدت منهم شعباً مجاهداً قل مثيله في العصور الحديثة , فإن الزوايا تعتبر المؤسسات الشعبية التي مورست من خلالها حياة التصوف وتحققت بين أركانها تلك الروح الجهادية.
ولم يقتصر نشاط الزوايا على التربية والتعليم والتحصين الثقافي والحفاظ على اللغة العربية والتقاليد الإسلامية والهوية الحضارية , وإنما تجاوز ذلك للقيام بأنشطة اجتماعية وسياسية , ولا سيما في عهود الاستعمار ... ويمكن اعتبار عام 915هـ (1510م) حيث سقطت بجاية بأيدي المستعمر الإسباني , بداية التاريخ الجهادي للزوايا ...ذلك أن العلماء وأهل الفكر والثقافة حين حاصرهم الأسبان , ودمروا عليهم مدينتهم ومعاهدهم أخذوا يبحثون عن مواقع جديدة يواصلون منها رسالتهم التي نذروا أنفسهم لها , فلم يجدوا ـ كما قال شارل فيرو في كتابه "تاريخ المدن " ـ أحسن من من حوض الصومام , وقمم جباله التي بقيت منيعة من الاستعمار الإسباني طيلة الفترة التي قضوها يحتلون بجاية.
ولم يعتمد العلماء النازحون من بجاية على دولة لتؤسس أو تمول لهم زوايا يواصلون منها رسائلهم التعليمية ، وإنما اعتمدوا بشكل أساسي على الجهود الذاتية والمساعدات العينية للمسلمين , فقد أحسنت المناطق التي التجؤوا إليها استقبالهم , ورفعت من شأنهم كعلماء, والتف الناس حولهم ,وساعدوهم بكل ما يملكون , بل حموهم سياسياً حين اشتدت المحن , وكان لذلك أثره في أن تنشأ في حوض الصومام أشهر الزوايا وأخطرها في تاريخ الجزائر , كمعهد "ثامقرا" وزاوية "شلاطة" ومعاهد بني "وغليس" وزاوية "سيدي التواتي " التي بقيت تعمل كجامعة مرموقة لأكثر من أربعة قرون , ويكمن القول بأن الإشعاع الثقافي الذي كان ينبعث من قصور حكام بجاية ومعاهدها لم يخبُ حين دمرها الإسبان ، وإنما انتقل إلى الوديان , وأعالي الجبال ليشمل حوض الصومام وقراه.
خريجو الزوايا :
لقد أنجبت زوايا حوض الصومام علماء أعلاماً فيما كرسوا أنفسهم له فهناك "عبدالرحمن الثعالبي" و "أحمد بن إدريس" الذي تتلمذ عليه (ابن خلدون) و (أحمد بن القاضي الزواوي ، الذي يقال : إنه ترأس الوفد الذي استدعى الإخوة العثمانيين الأربعة لتخليص بجاية من الإسبان ، والشيخ الفقيه عبدالرحمن الوغليسي ، الذي انتشر تلاميذه في القرن الثامن الميلادي في مختلف أنحاء الجزائر...
إن العلماء الذين تخرجوا في هذه الزوايا هم الذين حافظوا على الإسلام والعربية في الجزائر ، وجعلوا من الإيمان والعقيدة قوة فاعلة استطاعت أن تصد محاولات المستعمرين لاختراق الشخصية الإسلامية وتشويهها , وكما أسلفنا فقد انطلقت من هذه الزوايا كتائب الجهاد , وتفجرت ثورات كثيرة ومعارك عديدة لمقاومة المستعمر , ولذلك بقيت الزوايا ذات قيمة تاريخية جهادية لدى المواطنين لما أدته من دور وطني.
محاولات القضاء على الزوايا :
ومن هنا كانت محاولات الاستعمار المتكررة لمحاصرة الزوايا والقضاء على رسالتها من الداخل ... وكانت أشهر محاولات في هذا الصدد ما حدث عام 1889م حين سعى الفرنسيون لإدخال عناصر موالية لهم وتتعاون معهم ,فطلبوا من شيوخ الزوايا ، وهم المشهود لهم بالعلم ، أن يجلسوا لاختبارات كفاءة يكون اجتيازها شرطاً للسماح لهم بمواصلة رسالتهم ، ولقد تمكن المستعمر بهذه الطريقة من تشريد بعض الأساتذة وطلبة العلم , فهاجروا إلى تونس ومصر والشام وغيرها وأصبحت برامج الزوايا خاضعة لرقابة عيونهم وأعوانهم , ولم يعد مسموحاً بتدريس شيء سوى القرآن الكريم ...ولكن مع ذلك كله لم تمت الزوايا أو تتلاشى , ولم يتوقف تدريس العلوم التي كانت تدرس من قبل ، فقط أصبح يتم خفية , وساهم تدريس القرآن بشكل أساسي في انتشار اللغة العربية والاعتزاز بها , ورفض لغة المستعمر كبديل عنها.
ولقد كان في وعي الجماهير ، ودقة حاسة عامة الناس ، ومقدرتهم على التمييز بين العناصر الدخيلة والعميلة , وبين العناصر الوطنية الصادقة ، وإصرارهم على عدم التعامل إلا مع الصادقين ، السر في بقاء الزوايا واستمرار رسالتها التربوية والتعليمية والسياسية , وانتشارها في المدن والقرى والبوادي.
الزوايا بعد الاستقلال :
بإمكان الدارس لتاريخ الزوايا في الجزائر أن يرى فيه ثلاث مراحل أساسية:
مرحلة مقاومة المستعمر : وهي أكثر المراحل ازدهاراً ,ومرحلة الثورة المنظمة ,ومرحلة ما بعد الاستقلال ...وإن كنا قد أشرنا في الأسطر الماضية إلى المرحلة الأولى , فقد نرى تجاوز المرحلة الثانية , حيث توقفت الزوايا ـ نوعا ما ـ عن أداء رسالتها التعليمية بسبب انخراط العلماء والطلاب في صفوف الثورة المسلحة , والاستعداد لمعركة الاستقلال ؛ لنصل إلى المرحلة الثالثة التي تكتسب أهمية خاصة ؛ بسبب استمرارها , وما تنطوي عليه من صراع حضاري ...
وقد يكون من الضروري أن يتساءل المرء عن الزوايا بعد الاستقلال حيث أصبحت المدارس وطنية , وعما إذا استمرت تتابع طريقها في تعليم القرآن المواد الشرعية لطلاب لا يذهبون إلى المدارس الرسمية ، أو أن نشاطها اقتصر على القيام بدور التثقيف الشعبي , وتعليم طلبة المدارس الرسمية – في أوقات خاصة ـ القرآن وبعض العلوم الشرعية.
يقول أحد المسؤولين بولاية بجاية رداً على ذلك :
لم تعد الزوايا بعد الاستقلال على ما كانت عليه أيام الاستعمار الإسباني ومن بعده الفرنسي , وقد توقفت بعض الشيء في مرحلة الثورة وبداية الاستقلال , ولكن حين أوكل أمرها فيما بعد إلى وزارة الشؤون الدينية استعادت بعض ما كان لها , وأصبحت مورداً هاماً لتزويد المعاهد التي تعتمد عليها الوزارة في إعداد أئمة ووعاظ ومعلمين ؛ لتدريس القرآن بالمساجد والإشراف عليها ...ومعظم طلاب الزوايا اليوم ممن أكمل المرحلة الابتدائية في المدارس الرسمية , ولم يوفق لمواصلة فيها , حيث تعتبر الزوايا بمثابة مرحلة متوسطة , يلتحق الطالب بعد إكمالها بأي من المعاهد الأربعة التي تتبع وزارة الشئون الدينية .. ويكون الطالب بعدها مخيرا بين العمل أو مواصلة تعليمه بالجامعة الإسلامية بقسنطينة , أو بمعهد العلوم الإسلامية في جامعة الجزائر.
أما دور الزوايا في التثقيف الشعبي فقد أصبح محدوداً ومقتصراً على دروس في القرآن والفقه... ( هذا كلام الرجل في أواسط العقد التاسع من القرن الماضي )
ماذا بقي ؟
أما اليوم فلم يبق من بجاية الحمادية شيء باستثناء بعض الأبواب بأقواسها ذات الأبعاد المعمارية المتميزة ... أما القصور ومعاهد العلم فقد دمرها المستعمرون , وبنوا على انقاضها الحصون والثكنات العسكرية , ولكنهم وإن استطاعوا إزالة الكثير من آثار المسلمين وشواهد حضارتهم , إلا أنهم عجزوا عن تشويه الإسلام الذي يقيض الله له دائما الأجيال التي تحمله وتدافع عنه.